الثلاثاء، 18 مارس 2014

المثقفون والسلطة!

العنوان مقتبس من كتاب "المثقفون والسلطة في مصر" لكاتبه غالي شكري. ولكن المقال لا يتعرض للكتاب.

التاريخ يكتبه المنتصر. هذه حقيقة لا بد من الاعتراف بها، وفهمها جيداً. والمنتصر لا يكتب التاريخ بأن يسطره في كتب، وإنما يفرض سطوته على المثقفين والمؤخرين والكتاب، الذين ينقسمون في سلوكهم إلى ثلاثة أقسام رئيسة: من ينضوي تحت لواء المنتصر، ويكتب ما توافق عليه السلطة، فيضمن بذلك انتشار كتاباته، ووصولها إلى الجميع تحت الوصاية والشرعية التي يكتسبها النظام القائم. وهذا القسم لا يوافق بالضرورة على ما يحدث، وليس يمجد بالضرورة شخص المنتصر وأفكاره واتجاهاته، ولكن في أحيان كثيرة هو يحاول الإمساك بالعصا من منتصفها، فيتجنب الحديث عما يزعج السلطان، ويمعن في الحديث عما ليس "به حرج".. وهذا أخطر في نظري من التمجيد للسلطان. فهذه الكتابات ـ حينما ترى طريقها إلى أجيال جديدة ـ تكون منقوصة، مع ما لها من مصداقية في مقابل الكتابات التي كانت تمدح وتمجد.

القسم الثاني هم من يناضلون ضد التيار السائد، ويتحدون سلطة المنتصر. هؤلاء يسجنون، ويعذبون، ويتهمون بأبشع التهم. والتاريخ مليء بأمثال هؤلاء، ممن اتهم بالزندقة، أو العمالة، أو السحر أو الشعوذة .. إلى آخر تلك التهم التي تتغير بتغير الزمان، لكنها في النهاية تخدم هدفاً واحداً: عزل المفكرين عن مجتمعهم بإثارة الحقد والكراهية بين الكاتب وعامة الناس، فلا يعودوا يتلقون منه ما يكتب (أو مايقول)، ثم "حرقه" تماماً، سواء حرفياً او معنوياً.

القسم الثالث هم من يختار العزلة بنفسه. فينأى بعيداً، يتخذ "قصراً عاجياً" يعيش فيه، وربما يتلاقى مع أقرانه في صالونات ثقافية أو منتديات مغلقة، يتدارسون ويتناقشون، يسجلون امتعاضهم من الأنظمة القائمة، في لقاءات مغلقة، لن يخرج منها للنور شيء. يحللون الأوضاع، ويضعون الحلول التصورية، هائمين في عالمهم الخاص.

وإذن، يمكن أن أقول أن المفكر في ظل نظام منتصر أمامه أحد أمرين لا ثالث لهما: أن يندمج في النظام، سواء بالتلون أو المواراه، أو أن ينسحب وينعزل، اختيارياً أو جبرياً.

وعلى مر التاريخ استخدمت الأنظمة الطاردة للمفكرين مجموعة من الأدوات والتكنيكات لدفع المفكرين للعزلة. أكثرها وضوحاً ومباشرة هو الاعتقال والسجن وتلفيق التهم والقتل... ولكن تبقى هناك مجموعة أخرى من التقنيات الأقل وضوحاً ومباشرة.

من هذه التقنيات تعزيز الجهل المجتمعي وتسليط الضوء عليه، حتى يشعر المفكر باليأس، ويفقد القدرة على المتابعة، فاقداً الثقة في مجتمعه وإمكانية الإصلاح بالكلية. فنشر الخزعبلات، والآراء التي تفتقد إلى أبسط مباديء المنطق، يدفع المفكرين دفعاً إلى الانسحاب من المشهد، حيث يرون أن هؤلاء لا يستحقون أصلاً عناء الجدال والمناقشة ومحاولة تفنيد تلك الآراء بشكل علمي منطقي، فضلاً عن اليأس الذي يصيب من يحاول مجرد الاقتراب من الخزعبلات، والتي في غالبها تدور في فلك "التابو" أو أحلام البسطاء وطموحاتهم.

تخيل نفسك وأنت تحاجج "جو نيومان" الذي اخترع آلة تنتج كهرباء لانهائية، أمام مجموعة من العامة الذين يتوقون إلى طاقة أرخص! هل تعتقد أن منهم من سيفتح آذانه ليسمعك وأنت تتلو قوانين الفيزياء الأساسية، ناهيك عن أن يفتح لك عقله؟

وضعك سيكون في أفضل أحواله حينها إذا تركك الناس وغادروا، صامين آذانهم عما تقول. ولكن الأرجح أنك ستتهم بالعمالة لشركات الطاقة الكبرى التي تمتص دم المطحونين، والتي ترفض السماح لمثل هذه الآلات أن تخرج إلى النور، فتقلل أرباحها. ستتهم أيضاً بالعمالة للحكومات التي تعمل لصالح الشركات والمؤسسات، ضد مصلحة شعوبها. ستتهم بالعمالة لكل ما هو ضد مصلحة العامة، وتدمج في كل نظريات المؤامرة الموجودة، حتى ولو تناقضت فيما بينها. فهل أنت على استعداد لذلك؟! النتيجة في الحالتين هي أن المجتمع سيلفظك.. فلم لا تنسحب في هدوء، مفضلاً الوصول إلى نفس النتيجة دون "بهدلة"؟

المشكلة الأكبر أن ذاكرة العامة متطايرة، قصيرة الأجل، كذاكرة السمكة.. لكن بعض الأشياء تعلق بها، ولا تغادرها.. سينسون الآلة الكهربية، أو يقنعون أنفسهم بأن المتآمرون قد نجحوا في وأدها.. ولكنهم لن ينسوا عمالتك.. قد يتذكرون أو لا يتذكرون الجهة التي كنت تتآمر معها، لكنهم سيظلون واثقين من حقيقة واحدة، هي أن عميل ومتآمر على مصالحهم.

الأنظمة اللافظة للمفكرين تعي هذا جيداً، وتستغله إلى أكثر مدى ممكن.. تذكر معي كيف اشتغلت إذاعاتٌ بأخبار انتصارات غير منطقية ولا توافق أبسط قواعد توازنات القوى المعلنة وغير المعلنة في حرب 1967.. العوام تصفق، تنبهر، تمتليء بالأمل .. أو بالأحرى تتعلق بالأمل.. حتى مع عدم منطقيته، ومع عدم صموده إذا عرض على أبسط قواعد المنطق.. 

من يقولون بأن هذا تلفيق هم أعداء الأمة، هم الطابور الخامس الذي يعمل على هدم المعنويات. إنهم حاقدون، مغيبون أو موجهون..

بعد الهزيمة بسنوات، يتذكر الناس أن هؤلاء كانوا عملاء .. لماذا؟ هم لا يذكرون تحديداً، ولكن العميل سيظل عميلاً. يكفيأنه قد نال اللقب مرة، دون أن أذكر لماذا، حتى يعلق اللقب به للأبد.

يتعلقون بآمال جديدة، و يتناسون أن من يمنحهم هذه الآمال الجديدة هم أنفسهم مانحوا آمال الأمس.

أنى للمفكر أن يصمد في وجه هذا الصلف والممناعة، مدعومة بالإغراق في الجهل والتجهيل؟