الخميس، 17 أبريل 2014

استرسال .. (1)

يستخدم بعض الروائيين والصحفيين أحياناً تقنية تسمح له بتجنب التحقيق في صحة ما يقول عن طريق تضمين المحتوى ما يمنع أصلاً التحقق منه، كأن يقول إنها معلومات غاية في السرية، وقد سمعها من مصدر مطلع، لا يمكنه البوح باسمه. فهنا يقطع على القارئ بداية القدرة على تتبع المعلومة، ويبقى القارئ بعدها بين أن يصدق أو يكذب، دون إسناد حقيقي.

هذه التقنية نفسها دائماً ما ترافق نظريات المؤامرة بجميع أشكالها، فهذا عالم سري لا يمكن سبر أغواره.. منظمات سرية، وأناس يعملون في الظلام.. فهل يمكنك حقاً أن تمسك بطرف الخيط؟ في الواقع كلا، وهذا هو مكمن قوة نظريات المؤامرة. حينما لا يمكنك الاستوثاق من المعلومة، فأنت تفتح باباً كبيراً أمام المتكلم/الكاتب ليقول كل ما يريد، دون حول لك ولا قوة.

هذا أيضاً يفتح باباً أكبر لإسقاط كل شيء وتحليله بما يتراءى للكاتب، فهذا الحادث الصغير هو جزء من المؤامرة الكبيرة، ولكنكم لا تعلمون.

هذه التقنية استخدمها الكثير من الكتاب على مر العصور، وأذكر جيداً كيف أن نبيل فاروق قد استغل اختفاء غواصة نووية روسية في المحيط (حدث حقيقي) لينسج قصة من قصص أدهم صبري حول الحدث، وكيف أن الخبر كله كان تلفيقاً لإخفاء حقيقة أن أدهم هو من اختطف الغواصة لإنقاذ منى (أو شيء من هذا القبيل، لا أذكر التفاصيل كلها).



دان براون يأخذ الفكرة إلى مدى أبعد حينما يرسم ملامح روايته "شفرة دافينشي" حول مجموعة من الحقائق التاريخية، لينسج حولها مجموعة من نظريات المؤامرة، فتختلط الحقيقة بالخيال، وتختفي الفواصل بينهما في نسيج روائي ممتع.

أجد أيضاً في مكتبتي كتاباً يحمل عنوان (الخيوط الخفية بين المسيح الدجال ومثلث برمودا والأطباق الطائرة)، لكاتبه (محمد عيسى داود) والذي أعتقد أنه اسم مستعار، والذي يبدو بعد قراءته أنه رواية قرر كاتبها أن يجعلها في صورة كتاب توثيقي، ربما لاجتذاب قراء أكثر، أو الإفلات من الرقابة.. ربما. الكتاب (الرواية) يشبه كثيراً كتابات دان بروان من حيث دمج بعض الأحداث الحقيقية، مع الكثير من التحليل الذي قد يبدو في ظاهره منطقياً، مضافاً إليه بعض الحقائق المدعاه من أمثال (والرجل الذي أبلغني هذا توفي بعدها بأسبوع في حادث مروع)..

الروائي السعودي (منذر القباني) له تجربة أيضاً في هذا النوع من الروايات بروايته (حكومة الظل)، والتي يكتشف بطلها الشاب انه جزء من جماعة سرية إسلامية تعمل على غرار الماسونية العالمية في الخفاء، لإعادة مجد الدولة الإسلامية الكبرى. هذه الجماعة السرية تعمل في الخفاء لتحارب الماسونية العالمية التي تعمل أيضاً في الخفاء، ولكن لها ميزة هي أنها غير معروفة تماماً، على عكس الأخرى، وبدأ تكوينها في أواخر الدولة العثمانية على يد أحد أعيان الحجاز، عندما استشعر قرب نهاية الحكم العثماني.

مثل هذه الأفكار مقبولة، بل و ممتعة عندما تستخدم في إطار روائي، ولكن ما يحدث بيننا هو أن نفس هذه التقنيات تستخدم كثيراً في إطار واقعي، لإقناع الشعوب بوجود واقع لا يرونه، ولا يمكنهم التعامل معه، ولكنه موجود، وبالتالي يمكن تبرير وتمرير الكثير من الأفعال التي لم يكن من الممكن تمريرها بدعوى أن عامة الناس لا يعلمون ما يحدث خلف الستار، فيفوضون أمرهم لمن يعرف.

هذا الواقع الذي لا نراه، والذي يصرون على أننا نعيشه يذكرني كثيراً بالواقع الافتراضي الذي كونته أجهزة الحواسيب العملاقة المنتصرة على البشر في فيلم "المصفوفة Matrix"، مع اختلاف السياق، ففي الفيلم تنسج العقول الإليكترونية واقعاً افتراضياً تعيش فيه عقول البشر، بينما هم في الواقع مجمدون داخل آلات جمع طاقة ضخمة، فيما يشبه مزارع التفريخ العملاقة.. هنا الصورة مختلفة قليلاً، حيث أننا نعيش واقعاً، وهناك من يحاول أن يقنعنا أننا لا نرى الصورة كاملة، فهناك عالم آخر كبير يتحكم في عالمنا الذي نعيشه دون أن نشعر.

هل تستخدم هاتفاً ذكياً؟ هو مجرد جهاز للتجسس علينا من أعداء الأمة، ولكنك لا تدري.. الغريب هنا هو أن السعودية والإمارات هما الدولتان اللتين طلبتا من شركة مثل RIM أن تتيح لهما البيانات التي يتم تبادلها بين مستخدمي أجهزة بلاك بيري في الدولتين.. لاحظ أن الحكومات هنا هي من تحاول التجسس على مواطنيها، وليس "عدو الأمة"..

(يتبع)..